التناص الفني – مرثية لماضي متجدد

التناص الفني – مرثية لماضي متجدد

شارك

كم هو جميل أن نتذكر من مضى وكم هو أجمل أن نعبر عن مشاعرنا الإيجابية وتقديرنا للآخرين حتى بعد أن يرحلوا عنا. كان للتشكيل الهرمي الغنائي في مصر والذي تميز في  اضلاعه الثلاثة الشابة الدور الكبير في جعل الغناء الطربي الماتع هو الأكثر حضوراً في الأذن العربية وكذلك الرقي بذائقتنا الفنية الى فضاءات هي الكثر اتساعاً والأكثر جمالية.

images (2)images (1)images

فقد شكل الشاعر الغنائي والكاتب الصحفي محمد حمزة مع الملحن العبقري بليغ حمدي وكذلك العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ، حالة من الإستثناء الطربي لازلنا نحن اليه ونجد ذواتنا تنازعنا للعودة اليه في حالات الصفاء النفسي للتمتع بتلك الجماليات الطربية فيه.

تنزيل

أن الأمر الذي  ربط هؤلاء الثلاثة هو صداقة حقيقية عميقة غلفتها الموهبة الناطقة بالإبداع . فحرصوا على أن يكونوا  متلازمين اغلب الأوقات وكانوا الأكثر حرصاً على استمرارية الصداقة حتى لو لم يكن هناك تعاون فني. ولذا فقد استمرت علاقتهم ورابطتهم الأخوية الى أن رحل الى خالقه اولهم واعني به الفنان الكبير عبدالحليم حافظ.

وجد بليغ حمدي أنه من ادبيات الإخاء الصادق أن يتوجه لرثاء صديقه الراحل . فالذاكرة الثقافية العربية قد جعلت من رثاء من رحلوا عنا ، هو  أحد تمثلات العطاء والصدق الأخوي الذي يشكل حضوراً من بعد الرحيل . ولذا فقد وجد بليغ حمدي وهو الملحن الأكثر منه شاعراً غنائياً ، نفسه يكتب مرثية غلفها الحب الأخوي الصادق والشعور بالحزن لرحيل رفيق الأمس. ذكاء بليغ وعبقريته كموسيقار تجلت كذلك في كينونته الحاضرة الآن كشاعر.

فكتب مرثيته المعنونة بـ ( بنلف ) ، وكأنه بهذه القصيدة الغنائية يرثي عصراً فنياً زاهياً من تاريخ الأمة والحضارة العربية. حيث عمد فيها الى توظيف  الرمزية الشعرية والتي كانت حينذاك احد المذاهب الأدبية الحاضرة ، وهنا قد كان الإبداع. نعم .. الإبداع أن لاتكون مباشراً في التعاطي مع القضية موضوع النقاش ولكن أن تلجأ لإستحضار الرمز والأسطورة ومن خلالها تقول ماتريد ، فإنه هنا تتجلى العبقرية في الكتابة والإبداع في الرصد.

ولنتامل بعض من كلماتها الجميلة :

 

بنلف نلف نلف نلف
والسنين بتلف تلف تلف
والآم بتزيد وجراح بتخف
حبيبى

بنودع ربيع ونستقبل ربيع
يخضر الشجر
تتنسى الدموع ويحلو السهر
حبيبى

بنودع ربيع ونستقبل ربيع
يخضر الشجر
تنطفى الشموع ويحلو السهر
حبيبى

ونصبح ذكريات مجرد ذكريات
مجرد غنوة حلوة من ضمن الأغنيات
حبيبى

images (3)

بعد أن انتهى من كتابة كلمات هذه المرثية الجميلة حرص بليغ أن يقوم بتلحينها بنفسه ، واختار لها صوت القادمة من المغرب العربي الشابة حينذاك سميرة سعيد لتشدوا بها . فكانة هذه المرثية الناطقة بمفردات الحزن والقائمة على ذكرى جميلة راحلة هي في ذات الوقت الميلاد لفنانة عربية واعدة. فطغت شهرة الأغنية وحضورها على الشارع العربي الفني وطارت معها  شهرة سميرة  سعيد للآفاق .

وهكذا هي الدنيا فمن رحم الموت تولد الحياة . وتظل الذكرى هي ” ذهب النسيان ” ، كما كانوا يحلوا للأخوين رحباني – عاصي ومنصور – الترديد   في اشعارهم . ومن خلال الذكرى نجد الدافعية للإستمرارية وللحضور ، وهكذا كانت روعة مرهف الحس و ” إشتراوس ” العالم العربي كما يحلوا لي أن اسميه تيمناً بالموسيقار العالمي إشتراوس مؤلف ( الدانوب الأزرق ). استمرت الأيام في سيرورتها ورحل بليغ ولحق به صديقه محمد حمزة ولم يبقى لنا سوى ذكرى جميلة من تاريخ فني أجمل . نحن اليه فنستحضره الى  الأذن الموسيقية الفاعلة فنجد ذلك النقاء النفسي وتلك الأريحية الروحية المفقودة.

 

لا يوجد تعليقات

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.