شارك

يتساءل الناس كيف يستطيع جنود داعش تنفيذ أوامر قادتهم التي لا يمكن أن يقوم بها الإنسان العادي وهو في كامل قواه العقلية، فينحرون ويحرقون ويشنقون ويُغرقون ويُكممون، بل وينتزعون الفتيات من بيوت أهاليهم للبغاء باسم مِلك اليمين في حرملك الخليفة وحاشيته…

إن ذلك الوضع اللاعقلاني يذكرنا بصنيع جنود النازية حين أطاعوا أوامر قادتهم فحشروا النساء والأطفال والعجائز في غرف الغاز وهم يعلمون تماماً أن المنتج النهائي سيكون جثثاً هامدة… كتب “تزيفيتان تودوررف” أن ما تعلمه من جرائم النازية هو أن من يقومون بتنفيذ القانون أشد خطراً من الذين ينتهكونه… هذه السياسات عديمة الإنسانية نشأت في عقل شخص واحد، ولم يكن لها لتنجح لولا إطاعة عدد كبير من الناس لها وعلى نطاق واسع… وعندما يتم تلقين الناس أن القتل هو حق شرعي وضروري فإن ذلك يخلق عندهم ميلاً لقتل غيرهم رويداً رويداً، تماماً كما حصل في رواندا حين حصلت إبادة جماعية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي في سنة ١٩٩٤ وراح ضحيتها أكثر من ٨٠٠ ألف إنسان لم يملكوا الوقت الكافي ليتساءلوا كيف ولماذا قتلوا …

بين عامي ١٩٦١ و١٩٦٢ أجرت جامعة “بيل” تجربة في غاية الأهمية سجل نتائجها عالم النفس الشهير “ستانلي ميلجرام” في كتابه (إطاعة السلطة)، فقد دفعوا مبالغ مالية لمتطوعين من مختلف شرائح المجتمع ومن مِهن مختلفة للمشاركة في تجربة قيل لهم إنها دراسة عن الذاكرة والتعلم، وكان دور المتطوع يتلخص في لعبه دور المدرس الذي يطلب من الطالب تذكر مجموعة من الكلمات، وفي حال فشله في تذكرها يطلب المشرف على التجربة -والذي يرتدي معطفاً أبيض- من المتطوع إعطاء الطالب صدمة كهربائية خفيفة، وكلما زاد خطأ الطالب زادت شدة التيار الكهربائي الذي يجعله يصرخ من شدة الألم. لم يكن المتطوعون يعلمون أن الطلبة هم مجرد ممثلين وأن لا وجود للتيار الكهربائي في الأسلاك…

ورغم أن التجربة كانت وحشية في ظاهرها إلا أن أغلب المتطوعين لم يستطيعوا الانسحاب منها بل طوروا آليات لتبرير أفعالهم، منها تحميل المسؤولية الأخلاقية عن التجربة للمشرف عليه، فالمتطوع ما هو إلا منفذ للأوامر، وهذا بالضبط ما اعتادت سماعه محاكم جرائم الحرب من قبل المتهمين بارتكاب المجازر….والمُلفت أن النساء لم يتصرفن بطريقة مختلفة عن الرجال وقد أبدين ردود الأفعال نفسها… قرر كثيرٌ من المتطوعين مواصلة التجربة لأنهم رأوا في تلك المواصلة خدمة جليلة يقدمها للعلم، ومنهم من قلل من إنسانية متلقي الصدمة حيث رأى أنه لو لم يكن غبياً وتمكن من تذكر بضع كلمات لما استحق العقاب، وهذا بالضبط ما يلعب السفاحون على أوتاره لتشجيع أتباعهم على القضاء على جماعات بشرية كبرى…

كان من الواضح في تجربة “ميلجرام” أن الرغبة في إرضاء السلطة أقوى من الإحساس بالذنب، وكان المتطوعون يرون أنه من غير اللائق ترك التجربة في المنتصف حتى لا يظهروا بمظهر من يخلف وعْده وذلك لأنهم وافقوا على المشاركة منذ البداية. الإنسان حيوان اجتماعي لا يريد أن يَهز الاستقرار، ويبدو أن خوفه من العزلة أسوء بكثير من تأنيب ضميره به أو إلحاقه أذى بغيره…

في تجربة أخرى قامت عشرون ممرضة -وبأوامر مباشرة من الطبيب- بإعطاء جرعة كبيرة من دواء الأندروجين تساوي ٢٠ مل بالرغم من أن الورقة الملصقة على الدواء تحذر من تناول أكثر من ١٠ مل، وهذا دليل على إذعان أغلب الناس للسلطة العليا، حتى لو كان ما تأمرت به واضح الخطأ…

ما نريد قوله إن حاجة البشر لطاعة السلطة كثيراً ما تتغلب على تعليمهم وتربيتهم وأخلاقهم وإرادتهم، فسلطة الأيدولوجية سواء أكانت نابعة من العلم أم الدين أم كاريزما القائد، قادرة على إثارة الرعب في نفوس أتباعها الذين صاروا يتصرفون باسمها، فإذا كانت هناك قضية كبيرة بما يكفي فسيصبح تعذيب الآخرين له ما يبرره دون صعوبة كبيرة….

جنود داعش يتربون في بيئة معزولة معنوياً عن المجتمع الطبيعي ومفصولة تماماً عن المقبول أخلاقياً به، فيتعلمون تَشرّب مفردات الولاء والبراء حتى يُصدقون أنهم يحاربون من أجل قضية عظيمة، وفي نفس الوقت يرضعون الخوف الهائل من عصيان الأوامر الذي يُعد عصياناً مباشراً لأوامر الله وقد تكون عاقبته فصل الرقبة عن بقية الجسد ثم الانغماس في نار جهنم… ويكون هدف قادتهم هو تحطيم أية بقايا للتفرد والذاتية حتى تزداد قدرتهم على القيام بأفعال بشعة… مضافاً إلى ذلك النهج ما تعلموه من مناهج متناثرة في أدبيات السلفية المتشددة تُبرر قتل المسلمين وغير المسلمين بشروط فضفاضة يستطيع تطبيقها كل صاحب سلطة حقيقية أو مصطنعة…

لا يوجد تعليقات

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.